السلسلة الثانية من تفاصيل حياتي “معدلة”
يمنات
أحمد سيف حاشد
السلسلة الثانية
طفولتي في عدن
جزءٌ من طفولتي الأولى في عدن تذكّرتُ بعضها بيسر وسهولة، وبعضها بصعوبةٍ جمة، وأخرى استقيتها من روايات أمي في مراحل مختلفة من حياتها عن تلك المرحلة الباكرة من حياتي وطفولتي، دون أن يخلو هذا من تحر ومطابقة، ووجدان مشتعل وإنعاش ذاكرة؛ لرسم ما استطعت من ملامح تلك المرحلة..
بعد سنين من عمل أبي في شركة (البس)، جاء بنا من القريةِ لنكونَ معه وإلى جواره .. وقد وفّر له ذلك العمل قدرا من الدخل المحدود والمستقر، لِيلُمَّ به شملنا، ويفي باستقرارٍ معيشي متواضع لنا، وقد جاء بعض من هذا الحال على حساب صحته في المقام الأول، وكان هذا إيثارا منه لم نعلمْه إلّا بعد نوباتِ سُعال متكررة كانت تجتاحه أو تنتابه بين حين وآخر.. كان سعاله يبلغ ذروته، فيتورم وجه ويحمر، وتنتفخ أوداجه وعروقه حتى تبدو وكأنها تكاد أن تنفجر من وجهه وعنقه، ويوشك هو أن يقع من طوله أرضا، أو يخر صريعا من مقعده.
أقمنا في منطقة (دار سعد) وكانت يومها إحدى ضواحي عدن، وكان عُمري حينها سنتين وبضعة أشهر، ومعي أمي وأختين توأم هما (نور وسامية) وعمرهما أقل من عام.. سكنَّا منزلا صغيرا استأجره والدي، يتكون من غرفةٍ وحمامٍ، ومطبخٍ، وصالة.
(1)
مغالبة “الحصبة”
أراد أبي أن يَلُمَّ شملَنا تحت سقفٍ واحد في عدن.. أراد أن يُلملِمَ أشتات أسرتنا الصغيرة والبعيدة، بمسكن صغير في أطراف ضواحي المدينة المعروفة بـ “دار سعد” يؤينا إليه، محاطين بقْدرٍ من السّكينة والدِّعة التي نبحث عنها.. ولكن دخلت علينا الحصْبةُ بدمامتِها وقُبحها، وما تحمِلهُ من بشاعةٍ وافتراس، أو هكذا باتت في المخيِّلة.
مرضتُ بالحصْبة.. كان مرضُ الحصْبةِ ينتشر ويفتِكُ بالأطفال.. الحصْبةُ فيروس انتقالي حاد ومُعدي يُصيبُ الأطفال، ويسبّب لهم مضاعفاتٍ خطيرةٍ في بعض الأحيان.
كان مرضُ الحصْبةِ أكثرَ الأمراضِ انتشارا في سِنِّ الطفولة بصفه خاصة، ومن أعراضه ارتفاعٌ في درجةِ الحرارة مصحوبٌ برشَحٍ وسُعال، ورمد، وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم.. ورغم اكتشاف لُقاح الحصبة في ستينيّات القرن الماضي، إلا أنه لم يقوّض هذا المرض ويصيّره نادرا إلا في بداية التسعينيّات من القرن الماضي بحسب بعض المصادر.
أوّل معركةٍ رُبّما خُضتُها وأنا طفل في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال.. كان نذيرُ موتٍ يتهدَّدُ حياتي، ويتربّصُ بي بإصرار واشتهاء.. كلُّ يوم يمُرُّ وأنا لاأزال على قيد الحياة، كان يعني لأبي وأمي معجزةً من الصمود العنيد في مواجهة الموت، ورُبّما كان يعني مرور اليوم بالنسبة لي اجتراح بطولة على مرض يتَّسعُ وينتشر.. يفتك بالطفولة دون أن يراعي أو يكترث.. فيروس موت تبدو النجاة منه معجزة، حيث لا يعود من بيت فقير إلا وقد نهب من أطفالها روح من يشتهيه..
غالبتُ مرض الحصْبة، وقوِيْتُ على المقاومةِ والصُّمود، بفضل بعض النصائح التي أسْدَتْها جارتُنا لأمِّي التي كانت لاتزال قليلة التجربة، أو مُعدِمة الخبرة والمعرفة في أمور كتلك..
استفادت أمِّي من نصائح جارتها الّتي كان لديها بعضُ الدِّرايةِ بكيفية التعاطي مع هكذا حالة، ومعرفة بالوسائل الّتي باستطاعتها أن تخفِّفَ من وحشيَّة وآثار هذا المرض، فالجهل يمكن أنْ يضاعِفَ الحالة ويفاقِمَها، وهو المُساند الأول للمرض، وربّما يلعبُ دور السبب الأول للوفاة قبل المرض إنْ لم يُحتاطْ له.. تضافرت أسباب الحياة وسندت بعضها، فانتصرتُ على فيروس الموت، وتعافيتُ منه، واكتسبتُ مناعة منه مدى الحياة.
***
(2)
سَقَمٌ وهُزال
بعدَ شهورٍ مرِضتُ بمرضٍ لا أعرفه.. أصابني هُزالٌ وفُقدان شهية.. هَزُلَ جسمي إلى درجةٍ جعلني أشبه بأطفالِ مجاعةِ إفريقيا الّذين نشاهدهم في الصُّورِ وشاشاتِ التّلفزة.. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراعا مع الموت من أجل البقاء.. إمّا أنْ تغلبَ المرض أو يغلبك.. الموت يحوم عليك ويتربَّص بك كلَّ يومٍ وحين..
جارُنا “عبد الكريم فاضل” كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول ودون مقدمات: “ابنك سيموت ولن يعيش”. جملة قصيرة ربما نزلت على رأس أبي مثل ضرب المطرقة.. أثارت مخاوفه واستنفرت اهتمامه.. ربما هذه الجملة الصادمة، كانت سببا لأن أتجاوز الموت وأعيش.. هذه الجملة المُشبَعة بالمخاوف، بدت صاعقة لأبي، وجعلته يُهرع توَّا وعلى الفور إلى مشفى في عدن، غير أنَّ الطبيبَ أخبره أنَّ حالتي صعبة، والأمل في أنْ أعيشَ ضعيف.
أشار جارنا لوالدي أنْ يذهب بي إلى طبيبٍ ماهرٍ في لحج، لرُبّما هناك يجد بصيص أمل.. أبي الباحث عن ومضة أملٍ ينتابه مزيدا من الهلع.. أستطيع أن أتخيّلَ هلعَ أبي وأنا في حُضنه أو مسنودٌ بيده إلى ضلعه الحنون.. أسمع خفقاته.. قلبه يدق كالطّبل، صدره يصعد ويهبط، وأنفاسه تأرجحني، ودمْدمَة هلعه تهزُّ وجدانه وكيانه..
هذا ما شعرت به يوما أنا أيضا، عندما كنت أسابق الموت، وأحاول إنقاذ ابني “فادي” من نوبة ربو، عندما كان في سنِّي تقريبا أو أكبر قليلا.. كان والدي يحاول إنقاذي، وهو مصحوب بالهلع.. الشعور بأنّك تسابق الموت وتمنعه عن انتزاع طفلك من بين يديك، شعور كثيف الحضور، ولا يمكن نسيانه مهما تقادمت السنين وطال بك العمر.. لقد عشتُ مثل هذه اللحظة الكثيفة طفلا كما عشتُها أبا.. سارع والدي لإنقاذي من موتٍ محققٍ كان يُثقل جفوني المسبلة..
وفي لحج قال الطبيب لوالدي، إنّ حالتي سيئة جداً، وإنني لم أعد أحتمل الإبر، ولن أستطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، ولكن “لعل وعسى” وقرر لي وصفة علاج دون إبر..
استجاب جسمي للعلاج، وأخذتْ حالتي تتحسن ببطء.. بدأت أُقبل على الطعام بنهَمٍ يزداد كلّ يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطلا من اللحم في اليوم أتناوله كله لوحدي، ولا أترك للبقية شيئا منه يأكلونه.. هذا ما كانت تحكيه لي أمي.. كانوا إذا أعطوني قطعة منه، ما ألبث أن أعود فأطلب أخرى، حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي.. أستطيع أن أتخيل سعادة أبي وأمي.. أستطيع أن أتخيل لحظتها قلب أمي صرة فرح، وهو يكاد يطير من بين جوانحها.. أتخيل أبي والسعادة تغمره، وتتفتّح أسارير وجهه كزنابِق على شُرفات بيت عريس.. يا له من شعور أخاذ وآسر!..
نجوت وتعافيت، بل وصرت مشاغباً وشقيّاً.. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها.. أكسر زير الماء.. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء.. أكسر الزجاج.. أرمي بأواني الطعام.. أرتكب كلّ الحماقات وأرمي كل ما تَطالُه يدي على ما تقع عليه عيني.. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، وتغضب أحيانا أخرى، وتعاقبني بقسوة في مُعظم الأحيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملأن البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي.. كنت مزعجا لأهلي وللجيران والمؤجر.. لم أكف عن الشّقاوة والبكاء والضجيج والصراخ.
***
(3)
بُؤسٌ وشقاوة..!
كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات في العمل المضنى والجهيد، من أجل إبقائنا على قيد الحياة، وسدِّ لقمة عيشنا المتواضعة، وكذا عيش أسرته الأخرى التي يعولها في القرية، والّتي تنتظر بفارغ الصّبر ما يأتيها من والدي المثقل بمسؤولية إعاشتنا جميعا..
كانت الحياة صعبة، وصراعنا كله من أجل البقاء، فالستر واستمرارنا بالحياة هي أقصى ما نحلم به ونريد.
كانت أمي تطلب من أبي أن يُغلقَ علينا الباب من الخارج، خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها، فيغلق الباب علينا من الخارج حتى يعود من العمل آخر النهار.
كانت أمّي شديدة الحياء والمحافظة والتوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران.. لا تفتح نافذة ولا باب.. أبي هو وحده من يفتح الباب وهو من يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف، وغسل الملابس ، والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت..
ولكن لماذا أنا أيضا يتمُّ حبسي ولا يُسمحُ لي أن أخرج للشارع لألعبَ مع الأطفال أو أُطِل عليهم من نافذة؟!! أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت!! أريد أن أرى الوجوه والنّاس، والحركة ومعها صخب الحياة وضجيجها..
كلّ ساعاتِ النّهار والليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شقٌّ في نافذة ولا خُرمُ مفتاحٍ في باب..
أسمع بعض ما يحدثُ خارجَ البيتِ ولكنّني لا أراه.. فضولي مقموعٌ بجدران من أسمنت، وخشب من ساج، ولا مجال ولا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه..
أريد أن أعرف العالم خارج حيطان بيتنا.. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، والمحوطة بالصّرر والقراطيس، والعلب الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..
أريد أن أرى كلّ التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره.. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. كلّ شيءٍ ضيقٌ في البيت، كصدري الضيق، وجُمجُمتي الصغيرة.. أشعر أنّني أقضي أيامي في قُمقمٍ صغيرٍ مغلقٍ بالحديد، يحصرني ويحاصرني، ويكتم أنفاسي.. فكان طبيعيّا أن أكون شقيّا، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي والمتمرد بين جدران البيت وسقفه، وحصاره.
***
(4)
الموتُ يداهمُنا.. تساؤل..!
لماذا الموت يا إلهي؟! أعلم أنك حكيم، ولكن السؤال أيضا يبحث عن الحكمة والبيان؟! نحن شغوفون بالمعرفة، وربّما جُبلنا على هذا، ورُبّما في المعرفة تحدٍ وجودي للإنسان.. إننا نحاول فهم ما لا يتأتّى فهمه، وإماطة اللثام عنه، وكشف ألغازه ومجاهله، ومعرفة ما لا نعرفه، حتى وإن كان عصيا عن الفهم والمعرفة منذ البداية، أو تحتاج الإجابة على الأسئلة إلى مداها الزمني المستحق، إلّا أنّ شرفَ المحاولة فيه ممارسةٌ وجودية، تجعلنا نستحق هذا الوجود الذي نعيشه..
المعرفة ربما لا تأتي بالتّسليم، أو بتجاهل مالا ينبغي تجاهله، ولكنّها تأتي من اعتمال العقل والتجربة، وإثارة الأسئلة، ومناقشةِ الفَرْضيات والنظريات، أو استبدالها أو تصحيحها.. فالخواء لا يقدِّم علما أو معرفة أو فَهما لشيء.. ينبغي للأسئلة لتفعل فعلها، أن تنفُذ إلى الداخل وتغوص في العمق، ويجري البحث عن الإجابة عليها، وبذل ما في الوُسْع والاستطاعة من الجهد؛ لاكتشاف ما هو مجهول وغامض، وإزالة كلّ لَبسٍ أو غبش.. سلطانُ العلم هو ما نحتاجه لننفذ به إلى أقطار السّماوات العُلا، والأشياء الكبيرة كما قالوا “تبدأ بسؤال صغير”..
وقيل في حديث “إنما شفاء العيِّ السؤال”.
الأسئلة هي بوابات المعرفة، وهي السبيل إلى ما نسعى إليه من يقين، أو هي وسيلة تدلّنا من أجل الوصول إليه.. نحن هنا نسأل أو نتسأل لنبدِّد حيرةً، تجلي شيئا من معرفة، أو ناصية من علم، أو دليلا نبحث عنه، أو وسيلة في خدمة الإنسان ومستقبله..
ما كان في دروب الأمس عصيا على الفهم والعلم، أو مستحيلا عليه، صار اليومَ معلوما أو واقعا مفهوما وماثلا أمام العيون، ويغدو المستحيل ممكنا، وما كان اليوم عصيا على الفهم والعلم، ربما يصير غدا بديهيّة معرفية، وما لا نطول جوابه اليوم، سنطوله غدا، وغدا لا ينفذ ولا ينتهي في درب الزمن السرمدي أو الطويل..
المستقبل الّذي نرومُ ونعملُ لأجله، سيفكِّك كثيرا من أسرار الكون وغموضه.. فالكون مكنوز بالأسرار الهائلة الّتي لا تنتهي، وتفوقُ كلّ تصور وخيال.. والمعرفة لا حدود لها.. وطالما بقي إنسان في وجوده، سيظل يحتار ويسأل، ويتسأل حتى يصل ويطمئن إلى ما يمكن الوصول إليه، أو يظل يعدِّلُ فيما كان يظنه يقين، حتى يصلَ إليه، أو الحد الأدنى منه، ويستمرّ تراكمُ العلم لاكتشاف المزيد، ويستمر الإنسان في حصاد المعرفة، وفي مدى ربما لا ينتهي إلا بفنائه..
يتسألُ البعض: إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة، فأنت يا الله على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات، ولم يخلق الله الخلائق، ولم تشهد الأكوان والعوالم حياةً ولا موتا؟! ثم يجيب: ربما لو حدث هذا لأنعدم الحزن الوخيم الذي يملأ هذا الوجود على اتساع ما نتخيله.. هكذا أحيانا يجوس ويتمرّد علينا السؤال في محبسه، ولاسيّما عندما تصير كلفة السؤال أو الإجابة عليه حياة صاحبه..
كان الأفضل عدمي، أما وقد وجدتُ فأنا أكره الموت يا الله، وأكره عندما يخطف منّا من نعزّهم ونحبّهم.. البقاء غريزة قوية فينا، أو جاءت معنا عندما جئنا، لا دخل لنا فيها، ولا حولا ولا قوة.. أكره الموت عندما يخطف منّا حبيبا أو عزيزا، أو حميما..
الموت عندما نتعلق بمن نحب رهيب جدا.. الموت سكونٌ موحش.. ربّما عدَما وفراغا يدوم.. ربّما الموت فراق للأبد، ورحيل بلا نهاية.. ربما هو خراب وحزن ثقيل جدا على بني البشر.. هذا ما أشعر به عند رحيل كلّ عزيزٍ، فيما الموت عند الميت ربما شيء مغاير ومختلف..
الموت حالةٌ ربّما تتأخّر، ولكنّ مجيئها في حُكمِ الأكيد.. كبارُ المسلَّمات ربّما تكونُ محلّ ظنٍ وشك، أمّا الموت فحقيقة ويقين.. هو ناموسٌ كما قيل، لا يقبل الشكّ ولا التفاوض.. ولكن لا يدري الجميع أو الكثير أو البعض بيقين ماذا يحدث لنا بعد الموت والغياب الطويل.. لم يعد أحد من الموت ليخبرنا بيقين ماذا بعده..!
***
(5)
موتُ الأختين
أسرتنا الصغيرة في عدن ـ كما أشرت سالفا ـ كانت تتكون من أبي وأمي وأنا وأختين توأم (نور وسامية).. أسرة صغيرة وبسيطة تربّص بها الموت مليّا حتى ظفِر بالزّهرتين.. جاء الموت على نحوٍ غريبٍ وغامض، لازلت أجهل سببه وتفسيره إلى اليوم.. شيء أخذ من أسرتنا الصغيرة الأختين، وكِدتُ أكونُ أنا الثالثُ لولا اللطائف.
أختي (نور) ماتت، وكان عمرها لا يتجاوز العام .. كانت تصرخ فجأة صراخا طافحا وقويا، وما أن يتم حملها تسكت، وعندما يتم وضعها على الأرض تعود بنفس الصراخ، حتى يكاد ينقطع نفسها، فيتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي، فتكفُّ عن الصُّراخ، ويستمرّ هذا الحال فترة طويلة إلى أن تنام محمولة.. وفجأة صرخت ولم تستعد أنفاسها، وماتت في الحال..
توأمها أختي (سامية) عندما صار عمرُها أكثرَ من عام، تكرر معها الحال نفسه والأعراض.. تصرخ فجأة دون سبب معروف، ثم يتم المسارعة لحملها من قِبَل أبي أو أمي فتسكت، وعندما يتم إنزالها إلى القاع أو الفراش، تصرخ مجددا وبصوت متفجر، فيتم حملها بسرعة، وينتهي الأمر إلى أن تنام محمولة..
وفي إحدى الأيام صرخت، فسارع أبي لحملها، ولكن أنقطع نفَسُها، ولم تعُد، ولم نعرف سببا لموتها إلى اليوم.. زعم البعض هُراء إنها ماتت؛ لأن البيت التي نحن فيها مسكونة بالجن، وقال آخرون ماتت “فرحة”.. وأيُّ فرحةٍ إذاً وصرخة موتها يشق الجدار.
كنت أحب أختي سامية، كانت جميلة وبهية.. كانت حياتها خاطفة وسريعة.. حياة قصيرة كلحظة عاشق.. كحلم عَجول.. أما أختي نور فكانت حياتها أقصر وأسرع وتفاصيلها عصية على الذاكرة.
***
(6)
فقدانٌ موحشٌ وغيابٌ لا ينتهي
لازلت أذكر سامية وهي مُسجاه على الفراش.. كانت الرغبة تستبدُّ بي لأعرف ماذا حدث!! كان الغموض عندي بكثافة مجرةٍ مملوءةٍ بالأسرار العصية على الفهم..
كنت أنظر إليها مشدوها كأنني أشاهدها واكتشفها لأول مرة.. رغم الموت كان وجهها نابضا بالنور، وعيونها مشرقة رغم السكون، كانت تلبس ثوبا بلون دمِ الغزال.. مازال هذا اللونُ أثيرا لنفسي وإن كان يُذّكرُني بفراق طويل.. لم أكن أدرك حينها أنّ الموت خطفها وغيّبها للأبد.. لم أستوعبْ أنّها لم تعُد بيننا وأنّها لن تعود..
كنت أبحث عنها على الدوام وابكي وأقول لأمي: ابحثي عنها في مكان نومها، أريد أختي، أريد أن ألعب معها.. لم تحتمل أمي كلماتي الموجعةِ التي تنزف دما وحُرقة.. كانت تحاول تبلع غصصها, وتداري حسرتها البالغة، فيفضحها انهمار دموعها، فتنفجر بالبكاء وأبكي معها دون أن أعرف السبب..
كرهتُ الموت من حينها، غير أن أمي كانت تعزّيني، وتخفّف من وجعي ووجعها، وتقول: إنها في السماء، وإنها مرتاحة هناك، وسعيدة بين بنات الحور، وإنها تأكل التفاح واللحم، وكلّ أنواع الفاكهة.. كلّ ما أنا محرومٌ منه في الدنيا الفانية هي تأكله، وتنعم به في الحياة الثانية..
ربّما بعد حينٍ همَمْتُ بمغادرة هذه الدنيا الفانية إلى دار الآخرة لأستمتع بتلك الحياة الرغيدة، وأعوّض كلَّ حرمانٍ عشته في هذه الدنيا، ولكن شقَّ علي أن أتركَ أمي وحدها تنتحِب بقيّة عمرها.. رأيت أنّ المغادرة بمفردي دونها أنانية تبتليني، ورأيت إن البقاء عذاب لا ينتهي إلّا برحيلي.. هكذا بات الأمر سيَّان، وكأنّني أدور في مدار من عذاب لا يريد أن ينتهي.. ولكن حب أمي كان عظيما.
أخبرَتْني أمي أنّني سألتقي بأختيَّ (نور وسامية) يوم القيامة.. ومتى ستأتي يوم القيامة؟! إنني أكره الموت والفراق الطويل؟! العجيب أنّ أمّي – بعد حين – كانت تقول لي: إن الإخوة لا يلتقون في الدار الثانية إلّا يوم القيامة، أما بعد القيامة، فلا وصل ولا لقاء بين الإخوة، بنينا أو بناتا.. ربّما كانت أمّي أو مَنْ جلبَ لها هذا القول، يقصد تعميق أواصر الأخوة وتوثيق المحبة بين الإخوة في هذه الدنيا، ولكن كان الأمر بالنسبة لي يعني حزنا عميقا على فراق لازال بعيدا، وحسرة طويلة من الفراق الأبديِّ البعيد يأتي بعد يوم القيامة..
من فرْطِ تعلُّقي بأختي سامية، جاءت مولودة لاحقا، فأسموها سامية، تعويضا وتخفيفا من فراغ موحش تركه هذا الموت الذي يغيِّب عنّا من نحب.. هذا الموت القاسي والخالي من الرحمة والمشاعر.. سامية (أختي الجديدة) جاءت شفيفة ومرهفة وحميمة، ومسكونة بالسموّ والنُّبل الجميل.
***
(7)
كُدت أموت!
ماتت نور وسامية وكُدتُ أكون ثالثَهما.. مررت بنفس الحال والأعراض.. كنت أصرخ فجأة كزمجرة رعد على حين غِرّة، فيما يسارع أبي أو أمي في حملي من الأرض أو قاع المكان، وما أن أعود للأرض مرة أخرى حتى يعود الصراخ.. وأظل محمولا حتى أنام، وأحياناً أقوم من نومي صارخا، ويتكرر المشهد، وتزداد مخاوف أبي وأمي وتوجسُّهما أنني للحياة مفارق.
لماذا أصرخ ؟! ما زلت أذكر ولا أدري هل هي أعراض وتهيُآت أم ماذا؟!.. أتحدث هنا عن “مشاهده” ربما تكون غير حقيقية أو غير واقعية.. لا أستطيع أنسى ما كنت “أشاهده”.. ما زال “المشهد” عالقا بالذّاكرة، حافرا فيها، وما زال تفسيره وكنهه غامضا وعصيّا على فهمي إلى اليوم، وربما العلم قد قال قوله في حالة كتلك من زمن، دون أن اطلع عليه.
كنت “أشاهد” ثعبانا أبيضا يخرج من القاع.. طوله بحدود المتر.. له أرجل.. أرجله منتشرة على حافتيه، ورأسه مربعٌ متناسقٌ مع جسمه باستثناء أنه مميزٌ بعينين مدوّرتين، وعرض رأسه أكبر بقليل من عرض جسمه، ولديه شعرتان في مقدمة رأسه وكأنها للاستشعار..
“أشاهده” بغتة! يخرج من القاع يجري؛ فأصرخ بهلع بالغ، كما كانت تصرخ الأختان (نور، سامية) صراخ ناري ومتفجر يشقُّ الجدار.. كزمجرة رعد يأتي بغتة على نحوٍ صادمٍ في لحظةِ شرود وتيه.. صراخا ليس له موعدٌ يشق الليل أو النّهار.. ينمُّ عن “مشاهدة” أمر صادم، ومرعب وفظيع.. شيء ما يجعل الفزع والجزع يشقني نصفين.
وعندما كان يحملني أبي أو أمي يختفي هذا الثُّعبان بالقاع، لا أدري كيف يختفي، ولكنَّه يختفي، وعندما يطرحاني على الأرض، “أراه” من جديد يخرج من القاع الإسمنتي، ويزحف بسرعة في قاع الغرفة، ويتكرر هذا المشهد، ومعه يتكرر الصراخ.. كان يحملاني أو يتناوبان على حملي حتى أنام.. أبي وأمي لا يرانه، أنا كنت الوحيد الذي “أراه”، ولذلك لم يستطيعا اكتشاف سبب الصراخ وما “أشاهده”، إن كان لما “أشاهده” كشفا بوجه ما، رغم ما يبدو لي اليوم من استحالة واقعيته..
في إحدى المرات، تكرر مشهد الصراخ وعندما لمح أبي على يدي خربشات قلم، قام بمسحها، فانتهى صراخي ولم أعد أراه.. فهم الأمر على ما كان سائدا من وعي وثقافة، وتبدّا له أنني كتبت على يدي اسم “شيطان”.. ولكن هذا التفسير غير مقنع، ولا يستقيم، لأن حالات كثيرة تكررت معي ومع سامية ونور، دون أن تكون هناك كتابة أو شخابيط .. فهل ظلمنا الشيطان؟!
***